أدب وشعر

ساق البامبو وإشكالية الهوية فيها

نظرة نقدية لرواية ساق البامبو وإشكالية الهوية فيها

 

تنشأ مسألة الهوية نتيجة صراع الحضارات، كما يوضح جورج لارين، إذ يقول: “وفي المواجهة بين الثقافات تكون القوة دائماً متضمّنة، وبشكل خاص، إذا كانت ثقافة واحدة تمتلك أساساً عسكرياً واقتصادياً متطوراً جداً، وعندئذٍ يكون الصراع والمواجهة غير المتماثلة أو غير المتكافئة بين الثقافات المختلفة قد أصبح وسيلة للغزو والاستعمار، وأشكالاً صارمة من التواصل. وهنا تنشأ مسألة الهوية الثقافية“، هذا الصراع الجديد هو الصراع الذي تحدث عنه هنتنجتون في كتابه صدام الحضارات.  فالصراع سيكون على أساس ثقافي، والاستعمار الجديد سيكون استعمار ثقافات أيضاً؛ لذا يؤكد هنتنجتون أن: “السياسة الكونية يعاد تشكيلها الآن على امتداد الخطوط الثقافية مدفوعة بالتحديث. الشعوب ذات الثقافات المتشابهة تتقارب، والشعوب والدول ذات الثقافات المختلفة تتباعد“. رغم أن الانزياحات ليست بالضرورة على أساس ثقافي، ذلك لأن الأيديولوجيا السياسية والمصالح الاقتصادية تأخذ مجالاً أقوى في الانزياحات الدولية إلا أن الصراع الثقافي موجود من حيث فرض الثقافة، فالاستعمار الجديد يأخذ شكلاً ثقافياً، فتلجأ الدول العظمى المسيطرة سياسياً واقتصادياً إلى فرض ثقافتَها على الدول المستَعمَرة. ويبقى الصراع قائماً بين فرض الثقافة ومقاومتها، ومحاولة الدول المستعمَرة الحفاظ على ثقافتها، وهنا ينشأ سؤال الهوية.

التعريف بحدود الرواية

  1.  رواية ساق البامبو: للروائي الكويتي سعد السنعوسي، الحائز على جائزة البوكر لعام 2013م ويطرح فيها فكرة نبذ الوطن لأبنائه بحسب توجهاتهم السياسية والفكرية ومن ذلك شريحة البدويون الذين يعيشون بلا إثبات للهوية على هامش الوطن، مما أدى إلى فقدانهم للانتماء الحقيقي، فضلاً عن ذلك يُعرّي مأساة الأبناء المولدون من الزواج بأجنبيات وضياعهم بين أوطان عدة، بين وطن طارد، ووطن بديل.
  2. الهوية بأنها: “علاقة بالتطابق مع الذات عند شخص ما، أو جماعة اجتماعية ما، في جميع الأزمنة وجميع الأحوال، فهي تتعلق بكون شخص ما، أو كون جماعة ما، قادراً أو قادرة على الاستمرار في أن تكون ذاتها، وليس شخصاً آخر، أو شيئاً آخر، وقد يمكن اعتبار الهوية خيالاً، يراد منه أن يضفي نموذجاَ، أو سرداً منتظماً، على التعقيد الفعلي، والطبيعة الفياضة لكل من العالمين النفسي، والاجتماعي. ويتركز سؤال الهوية على تأكيد مبادئ الوحدة في مقابل التعدد والكثرة، والاستمرار في مقابل التغير والتحول“.
  3. الرواية-  novel: يقول روجر آلن : “الرواية نمط أدبي دائم التحول والتبدل، يتسم بالقلق بحيث لا يستقر على حال“، وفي السياق ذاته يؤكد باختين واصفاً الرواية بأنها: “المرونة ذاتها، فهي تقوم على البحث الدائم وعلى مراجعة أشكالها السابقة باستمرار. ولا بدّ لهذا النمط الأدبي من أن يكون كذلك، لأنه إنما يمد جذوره في تلك الأرضية التي تتصل اتصالاً مباشراً بموقع ولادة الواقع“، لذا، ليس من قبيل المبالغة أن يقول الناقد جون كبريس متحدثاً عن إشكال تعريف هذا الشكل الإبداعي الأدبي:” للرواية قدرة على امتصاص كل اللغات، والإنبناء على أي بنية من بنيات الواقع، الاجتماعي أو النفسي؛ لذا ينظر إليها بوصفها جنساً أدبياً يستحيل سيمانطيقيّاً وجمالياً

خصائص الهوية في رواية ساق البامبو

بناءً على الانزياح المعاصر لمصطلح الهوية، يحدد د.عبد النبي اصطيف ثلاث خصائص للهوية، هي:

  1. إن للهوية منشأ اجتماعي social construct، ومعنى هذا أنها شأن اجتماعي، أي إن المجتمع مسؤول عن إنشائها، بل هو قادر على إنشائها، لتكون أساساً للمواطنة التي ينشدها، وهذا أيضاً ما أكده معلوف حين قال: “كم هو حقيقي أن ما يحدد انتماء شخص إلى مجموعة ما، هو تأثير الآخرين بشكل أساسي، أي القريبين منه كأهله، ومواطنيه، وإخوته في الدين… فهو ليس ذاته دفعة واحدة، ولا يكفي أن يعي ما هو عليه، إنه يصبح ما هو عليه. لا يكتفي بأن يعي هويته، إنه يكتسبها خطوة فخطوة“.
  2. إن للهوية منشأ ينطوي على تنوع وتعدد، يعنيانه ويوسعان أفقه؛ ليشمل طيفاً واسعاً من وجوه الهوية، يجمع بينها بانسجام تام، دون أي خوف من الإقصاء الذي يمارسه البعض لوجه من وجوه هويته، لخوفه من تأثيرها السلبي في وجوهها الأخرى. فهذه التعددية في الهوية، التي تشكل كلاًّ واحداً، هي أيضاً ما شدد عليه معلوف، إذ إن هوية الشخص ليست تراكمات لانتماءات تلقائية، فهي “ليست رقعاً، إنها رسم على بشرة مشدودة، ويكفي المساس بانتماء واحد لكي ينتفض الشخص بكليته“.
  3. إن للهوية منشأ قابلاً للتغيير والتطوير، مما يرسخ الأمل بإمكانية خلق هوية تجمع وتسمح بالتواصل مع “الآخر”، على أساس وجه من وجوه الذات. وعلى حد تعبير معلوف “لا تعطى الهوية مرة واحدة وإلى الأبد، فهي تتشكل وتتحول على طول الوجود“.

فكرة تفكيك الهوية في ساق البامبو

فكرة تفكيك الهوية فكرة ما بعدية، ظهرت من جهة نتيجة لعصر التشتت والاختلاف، كما يرى إيهاب حسن، حيث انتشرت في هذا العصر الأسئلة عن الهوية الثقافية والدينية والشخصية، وصار الإحساس بها حاداً، ويؤكد أنه في الانتقال ممّا بعد الحداثة، التي تحمل معنى عصر التقدّم والتطوّر برأيه، إلى ما بعد الحداثة، أي عصر التشتت والصراع، يمكن أن نسمع البكاء حول العالم، مع طرح أسئلة مثل: (من نحن؟) و(من أنا؟)، على حد تعبيره. إقرأ أيضاً في النقد الأدبي عن البيان والتبيين لمؤلفه الجاحظ

الهوية في رواية ساق البامبو

نرى أن الهوية سيرورة تتشكل في سياق، وليست حقيقةً منتهيةً، إنها ذات منطق خاص تتماهى مع الآخرين وتتمثل منهم وتتثاقف وإياهم وتضيف إليها وتنقص وتصطفي وتنسف وتبني. ونضج الهوية لا يعني نهايتها، بل يعني أنها بلغت سن الرشد major أي أصبحت قاسماً مشتركاً للأكثرية. لكن الذين لا يتفقون مع الأكثرية هم minor، أي الذين يستحقون الرعاية لأنهم ليسوا من الأكثرية فهم الأقلية. ولهذا فالهويات التي تعيش في كنف الهوية الأكثرية تحتاج إلى رعاية خاصة لا إلى توجس؛ لأن المتوجس هو من الأقلية لا الأكثرية، فهو يعادي تدجينه وتطبيعه، ويمتلك حس الشعور بالتهديد الوجودي، والقلق، ويحتاج من الهويات المتبلورة  إلى الرعاية والتميز والامتيازات، لكن الخطورة تكمن في أن هويات الأكثرية لا تكون في الأزمات متبلورة كفاية، بل تكون غير ناضجة ومتوترة، فتتصادم مع الهويات الأقلية بدلاً من أن ترعاها؛ لأنها في حالات الجرح النرجسي والبحث عن الذات، تكون الأكثرية في وضع الأقلية. إقرأ أيضاً مفدي زكريا – نظرية نقدية

وقد تمثل اللغة عاملاً طارداً للشخصية الروائية، فنجد شخصيات مغتربة عن واقعها المعاش ويمكن اقتناص هذه الثيمة من التعبير الكلامي للشخصية، إذ تلجأ -على الأغلب- إلى لغة بديلة للهروب من الواقع ونلمس ذلك في رواية ساق البامبو، إذ تنفرد بتقديم لغة لشخصية عن طريق تقنيتَيّ السرد والحوار، فيرسم الكاتب ملامح شخصية خولة أخت عيسى وهجرانها للغة الأم:

لو أنني أقرأ العربية “رن هاتفها النقال وضعت السماعة على أذنها وشرعت تتحدث بالإنكليزية، قلت لها حين فرغت من مكالمتها لماذا تتحدثين الإنكليزية؟ أجابت على الفور: أحبها في المحادثة أكثر من العربية.

_انتهزت الفرصة لاستعراض معلوماتي، يقول خوسيه ريزال أن الذي لا يحب لغته الأم هو أسوأ من سمكة نتنة

نلمح ثنائية (الغربة، الانتماء) في الرواية، فنقف عند بنية العنوان التي تعني اللاجذور واللاانتماء كساق البامبو، إذ يقدم شخصية (عيسى الطارووف) أو (هويزيه) الشاب الكويتي من أم فلبينية والذي يقرر العودة إلى الوطن تحت ضغط والدته الفلبينية؛ ليواجه حقيقة (الوطن الطارد) لأبنائه فقط بسبب انتمائهم لطائفة أو لعرق آخر، فيواجه بوطن لا ينتمي إليه إلا بالأوراق الثبوتية فقط. والغربة داخل الوطن تتضاعف مع نبذ عائلته له، ويصور الكاتب من خلال بطله، مشاكل المجتمع الخليجي ولاسيما مع الأجانب، وبالأخص الأيدي العاملة الوافدة إلى البلد، ويصور البطل رد فعل العائلة على مجيئه إلى البيت، حيث كان يعيش والده، ويطّلع على الرواية التي كتبها والده قبل وفاته.

“من دون أن تلتفت إليّ، أشارت بسبابتها إلى الباب الخلفي المُفضي إلى المرآب، خذ ابنك واخرج من هنا، صعقت لتبدل مزاجها… (أمي) رفعت صوتي متجاوزاً بكاء عيسى، أردفت “أرجوك” تقدمت نحو الباب الخلفي فتحته، وقالت مشددة على كلماتها “اخرج الآن” ثم أشارت نحو الصغير، وإياك أن تحضر هذا الشيء إلى هنا

إن فكرة النبذ المسيطرة على ذهن البطل هي فكرة محورية والتي تجعل منه ضحية تسقط في منطقة الفراغ بين (القبول والرفض) من قبل الآخر. إلا أن فكرة النبذ متجسدة حتى في المفردات التي أطلقت على البطل (شيء)، وكأنه نكرة بشرية ليس لها جذور في هذه العائلة منذ الولادة، لا لشيء إلا بسبب والدته الأجنبية (الفلبينية) وأبيه الكويتي، ويشكل الوجه للبطل مأساة حقيقية في الكويت، إذ يعاني من شبهه لوالدته، إلا أن الضياع الحقيقي هو عند إحساس البطل بعدم الانتماء لوطن لا يعرفه على الرغم من أصالته.

“حين عدت إلى بلاد أبي وجدتهم متورطين بي، يريدونني ولا يريدونني. بعضهم سعيد بعودتي، بعضهم في حيرة، والبعض يطلب تسوية الأمر مادياً، ويطلب مني العودة “إلى بلاد أمك” وأنا أقف على أرض لست أعرفها، باحثاً عن أرض تأويني بين بلاد أبي وبلاد أمي

إن الأوطان الطاردة في الأدب العربي لم تأت من مخيلة الكاتب فحسب، بل جاءت كمعالجة لقضايا المجتمع العربي، وهنا (المجتمع الكويتي) بتفاصيله المعقدة وتصوير الفوارق الطبقية بين أفراده (المواطنون والأجانب) وتصوير الاغتراب وعدم الانتماء بين أفراده حتى ولو كانوا يحملون نفس الأوراق الثبوتية التي تؤكد انتمائهم لوطن واحد، فطاقة اشتغال الروائي تنصب حول موضوع الهوية وإشكالاتها الاجتماعية والنفسية من خلال اصطدام الأبطال ولاسيما عيسى بالواقع المعاصر، والبحث عن علائق متشابهة تربطه بالشخصيات والمكان وتفاصيله.

عند الوقوف على دلالة العنوان كعتبة نصية، نجد أن الرواية مشحونة بدلالة رمزية ابتداءً من الشخصيات، وقوفاً عند العنوان ساق البامبو حيث يقف البطل عند مفهوم الانتماء للوطن عند من لفظتهم أوطانهم وكأنها أوطان طاردة، فيلخص علاقته مع الوطن كعلاقة الأشجار بالتربة التي تنمو في ظلها، فيقول البطل عيسى:

“لو كنت مثل شجرة البامبو، لا انتماء لها، نقتطع جزءاً من ساقها.. نغرسه بلا جذور في أي أرض.. لا يلبث الساق طويلاً حتى تنبت له جذور جديدة.. تنمو من جديد.. في أرض جديدة بلا ماضٍ.. بلا ذاكرة.. لا يلتفت إلى اختلاف الناس حول تسميته، كآويان في الفلبين.. خيزران في الكويت.. أو بامبو في أماكن أخرى..” فالمعنى الرمزي ليس لعنوان الرواية فقط بل حتى أسماء شخوص الرواية ولا سيما بطلها عيسى في الكويت وهوزيه في الفلبين، هي المعاناة نفسها التي عاشها (راشد الطارووف) والده داخل وطنه وفي أحضان عائلته، إذ يؤكد الكاتب على ثيمة أن الوطن ليس مكاناً يحتوينا فقط، بل هو مجموعة من العلاقات الاجتماعية والفكرية التي تربط مجموعة من الناس وتحسسهم بالانتماء لهذه البقعة دون غيرها من الأماكن.

نجد أنماطاً من الأوطان الجاذبة في رواية (ساق البامبو) وتشغل دولة الفلبين (الوطن البديل) مساحة كبيرة من الرواية للذين نبذتهم أوطانهم، ولم تحتضنهم، ولاسيما ممن يولدون من آباء غير مواطني تلك الدولة.

ونجد شخصية عيسى بطل الرواية بعد رحيله إلى موطنه الكويت واصطدامه بالواقع ونبذ عائلته له بوصفه دخيلاً قادماً من الخارج، فأصبحت لديه قناعة أن الأوطان الجاذبة لا تُشترى بالأوراق الثبوتية، وإن الانتماء هو انتماء روحي أكثر منه انتماء رسمي؛ لذلك قرر العودة إلى وطن احتضنه رضيعاً وأنشأه رجلاً وهو (الفلبين) موطن والدته الأصلي، فيصور حالة التخبط والحيرة في الغربة بقوله: “من كان بوسعه أن يقبل بأن يكون له أكثر من أم سوى من تاه في أكثر من اسم… أكثر من وطن… أكثر من دين

ولا يقف تشظي الأبطال بين الأوطان على عيسى (الكويتي/الفلبيني) الذي وجد وطنه البديل في موطن والدته، ولكن يمتد الأمر ليشمل (ميرلا) ابنة خالته التي أنجبتها أمها من حملها من أحد الأوروبيين؛ لذا نراها تكره كل ما يمت إلى أوروبا من صلة، فلا ترى سوى الموت والعهر، وتتبنى مقولة: “الموت هو العلاقة الأولى للحضارة الأوربية عند إدخالها إلى المحيط الهادئ.. هل هي نبوءة تتحقق لكل من يقترب من الأوربيين؟ لست أتحدث عن الموت الذي بعينه ويُزال في سنوات الاحتلال، بل موت آخر، عندما احتل الأوروبي المجهول جسد آيدا تركني بذرة في أحشائها ثم رحل“. إن التنويع في الأساليب الفنية في تقديم الشخصية هي سمة مميزة في أي عمل روائي، وهنا مزج الكاتب ما بين تقنيتي (السرد والرسائل) في تقديم شخصياته، وعدّها وسيلة للحوار وإبداء وجهات النظر المختلفة بين الشخصيات، ولاسيما فيما يتعلق بالانتماء للوطن، فشخصية (ميرلا) هي شخصية منسلخة عن جذورها ووطنها الذي تنتمي إليه (الوطن الطارد)؛ لتجد بدلاً جاذباً (الأوطان الجاذبة) وهو الفلبين موطن والدتها الأصلي، مما جعل أزمة الذات والبحث عن هوية بديلة مهمة مشتركة لكليهما(عيسى وميرلا)  وكان اقترانهما هو الحل الأمثل لتأسيس وطن بديل يضمهما معاً.

 

نخلص مما تقدم أن الاغتراب أو الانتماء اللغوي غير مرتبط بوطن ما بقدر ارتباطه بعوامل أخرى مثل: الدين – القومية – لغة المجتمع، مما يسبغ على اللغة طابعاً خاصاً ومميزاً يمكن من خلاله التعرف على الهوية وطبيعة الانتماء من عدمه لدى الشخصية المتكلمة بوساطة اللغة التي تعد أداة كشف عن المحكي.

 

المصادر

ساق البامبو رواية

كتاب ساق البامبو

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى