
جدول المحتويات:
الكلمة الرقيقة هي جواز سفر نعبر من خلالها إلى عوالم السّحر والإبداع بعذوبة نطقها وحلاوة وزنها, تحلّق عالياً بأجنحة رهيفة وموسيقا هادئة ناعمة, تخترق كل الحواجز والهموم, لتصل إلى لبّ الفؤاد وسُكنى الرّوح…
ليلى وحسن المرواني
ستبقى في الذاكرة قصة ذلك الشاب العراقي الفقير في مطلع السبعينات حسن المرواني الذي أحب زميلته ليلى في الجامعة, والذي جسّد قصة حب إنسانيّة, وخزن في ذاته ذلك الحب وراكمه سنة بعد سنة لزميلته ليلى الطالبة في كلية الآداب في جامعة بغداد, كتم سرّ محبّتها واحتفظ به لذاته, وكان سرّه الجميل. لم يجرؤ على البوح به, إنه حب من نوع فريد, خالد يحفر في الوجدان والقلب أنهار الحب والشوق والحنين, ويفيض على ضفافه ليروي شغاف القلب الملتاع, حب سهّد أجفانه, جعله يحلم بكل لقاء, وكل كلمة, وكل همسة, وكل لفتة. جعله ذلك النبيل الهائم على وجهه, ينشد لقاء ليلى, وليلى لا تعلم. حمل لها ذلك الحب الجميل, ونهل من عينيها كل حلم جميل, ويسأل نفسه.
ترى هل تفكر بي؟ هل تتوق لرؤيتي كما أتوق لها؟
إن للفقر أنياباً تنهش كل حلم جميل, صراعه من أجل أن يعيش, وأن يتعلم, وأن يحصل على الشهادة الجامعية, تلك الظروف حالت بينه وبين ليلاه. وماذا عساه أن يفعل, وكيف يصارحها بحبه الذي توقّد بين أضلاعه, وألهب جوانحه, وجعله كالطفل الصغير المتعلق بمهد الحنان والطمأنينة, إنه ذلك الشعور الدافئ الخفي الذي يعيش داخلنا, وينمو كل يوم بإشراقة شمس, واهبة كل نور وإحساس راقٍ في الحياة.
كم ليلة ناجى طيفها وخيالها, وكم مرّة مرّت على خاطره, فتأهبّت خلجاته, وانتفضت أوصاله, وعانى ما عانى من عذاب الحب والشوق.
ليلى الحلم الجميل
ليلى ذلك الحلم الجميل الذي لا ينتهي.. هل يصارحها بحبه؟
كتب قصيدته النابعة من وجدانه ولخّص عمق التجربة بحلوها ومرّها. كيف لا وليلى باتت كل شيء في حياته, وإذ بذلك المارد في ماله جاء ليخطف تلك الوردة الندية الجميلة من حديقة أحلامه.
كتب حروفه بمداد القلب وخضّبها بمشاعره النديّة اللطيفة, وجسد معاناته ولوعته في حب ليلى, تلك الابتهالات والصلوات والمناجاة, تلهب الرؤى والأحلام والدموع والاشتياق. رسم في قصيدته حلم العاشق الذي أوجعه الفراق.
في تأملات الذّات وفي إرهاصات الرّوح ترى الغناء والموسيقا من يبلسم آلامنا ويخفّف من جراحنا, يزين لنا الحياة بمباهج الحب وحلاوته, يرسم لنا الحروف ويزركشها بشتى ألوان الجمال, فتبدو قصيدته كلوحة فنان مبدع يرسمها بريشته, كألوان قوس قزح تبعث في النفس الراحة والطمأنينة. حيث يبقى للشعر الغنائي سحره وجماله، فالشاعر يغرف من ملكوت السّحر, ويهيم في حب القصيدة, يعانقها ويجعلها عشيقته وملهمته ومشكاة أحلامه وأفكاره.
المرواني في قصيدته عاتب ليلى وجعلها تبكي قبل أن يُكمل إلقاء قصيدته, ولكنه استطاع أن يكمل قصيدته أمام الحاضرين, والدموع قد ملأت أجفانهم, أما ليلى فقد أغمي عليها في نهاية المطاف.
عانقه صديقه بعد أن أجهش بالبكاء, وقال له, إنه لم يكن يعلم أن الأمور ستصل إلى هذا الحد.
وهنا يرى المرواني حب حياته قد ذوى ورحل بعيداً.
قصيدة تلخّص مشاعر إنسانيّة نبيلة وقصّة حب خالدة حفرت في الأذهان والقلوب, وعُلّقت كلماتُها إلى اليوم على جدار جامعة بغداد, لتكون شاهداً على قصة حب نبيل لم تكتمل, بل خضّبتها دموع الشّوق والعتاب والألم. إقرأ أيضاً عبرت الشط على مودك وكاظم الساهر
رحلة البحث عن كاتب قصيدة أنا وليلى
سعى الفنان كاظم الساهر وراء كاتب القصيدة بعد أن قرأ كلماتها وأثّرت فيه, وعلم عمق معاناة صاحبها. فقرر أن يبحث عن كاتبها, وأمضى أكثر من ثماني سنوات حتى وصل به البحث إلى صاحب القصيدة اليتيمة.
فالكثير من الذين نسبوا القصيدة لأنفسهم, أتوا فقط ببضعة أبيات منها, ولكن صاحب القصيدة حسن المرواني هو من أتى بالقصيدة كاملة.. أكثر من 350 بيتاً.
اجتمع كاظم الساهر بحسن المرواني الذي كان يعمل مدرساً للغة العربية في إحدى القرى البعيدة ببغداد.. كان المرواني إنساناً بسيطاً, لكنه اختزن الإنسانية في داخله. لم يقل عن نفسه شاعراً, بل كان يقول إنني أودعت في هذه القصيدة قصة حبي ومعاناتي الصادقة في حب ليلى, فكلّ حرف فيها مُنتَزع من ضلوعي وروحي وشغاف قلبي.
كاظم الساهر والأغنية
استطاع الفنان كاظم الساهر أن يختار منها بعض الأبيات لتكون قصيدة غنائية جميلة مغنّاة, تتلاقى فيها روح القصيدة بروح كاظم التي تتوق لكل شيء جميل, فتوّجت تلك الكلمات بلحن شجي تهفو له النفوس. وكاظم الساهر مغنٍ وملحن عراقي موصليّ الولادة.. لحّن جميع أغانيه بنفسه, ما عدا بعض الأغاني.. استعان فيها ببعض الملحنين. ويُعتبر كاظم الساهر من أشهر المغنين العرب في البلاد العربية, رغم عدم اتجاهه للأغاني الشبابية, واهتمامه دائماً باختيار أغانيه بدقة تُظهر ذائقته الفنية والموسيقية.. فهو من عمالقة الفن العربي والطرب العراقي الجميل. لُقّب بسفير الأغنية العراقية, وقيصر الأغنية العربية, وقد جسّد السّاهر في لحنه عتاب صاحبها المليء بالحزن.
كان لصدمة المرواني بحبيبته التي أتمت خطبتها على زميل آخر لها الأثر الكبير في نفسه, حتى أنها أفقدته الكلام, وانقطع عن الذهاب للجامعة, إلى أن عاد وكتب هذه القصيدة, التي اشتهرت بين أصدقائه, وعندما أنشدها في نادي الجامعة كانت صاحبة القصيدة حاضرة إذ بدأها بـ..
ماتت بمحراب عينيك ابتهالاتي
واستسلمت لرياح اليأس راياتي
جفت على بابك الموصود أزمنتي
ليلى ما أثمرت شــيئاً نداءاتي
صدرت هذه الأغنية في ألبوم غنائي لكاظم الساهر عام 1998, وحصلت على متابعة واهتمام كبيرين, حيث كانت من أفضل عشر أغانٍ في العالم. إقرأ أيضاً عن الشعر الغنائي
سكَرَات الحب
وفي رد ليلى صاحبة القصيدة, وبحسب الرواية, ذكرت أنّها تعرف حسن المرواني وتقول إنه لم يعترف لها بحبها إلا في السنة الرّابعة والأخيرة عن طريق إحدى زميلاتها, وليس بشكل مباشر, وبعد أن ارتبطت بزميل آخر, وأنها لم تكن تنظر لفقره وغناه, وأنه لم يتواصل معها بشكل مباشر, بل ظل يلمح, وعندما اعترف لها بحبه كانت قد تمت خطبتها.
وتبقى تلك رواية لكن أرى أن صدق المرواني وصدق مشاعره واضحة, تظهر في نبرات صوته وفي ملامحه وارتباكه, وهذا كفيل بأن تدرك أي فتاة بحدسها الأنثوي ما تخبّئ تلك النظرات وتلك النبرات, وما توحي تلك الملامح من حب وشغف كبيرين. وهناك من قال أنهما تعاهدا على الزواج فكيف لها أن تنقض العهود وتختار غيره, إلا إذا كان هناك دافع وهو الطّمع بالمال, ولذلك عندما سمعت كلمات القصيدة وما تحمله من مشاعر نبيلة وصدق أجهشَت بالبكاء, بعد أن أنَّبَها ضميرها وأوجعها قلبها كيف حطمت قلب ذلك الشاب الفقير, وعندما واصل قصيدته أغمي عليها..
إنها قصة إنسانية لا بد من تأمّل أحداثها في عصرنا اليوم.. ففي جامعاتنا هناك الكثيرات مثل ليلى, والكثير الكثير مثل حسن, الوضع الاقتصادي والنفسي والاجتماعي دفعهم لاختيارات ضد قناعتهم, وإن حاولن التبرير تبقى لغة المال هي الأقوى في عالم فقد كل شعور بالحب والمسؤولية.. وأنا لا أعمم لكن أتحدث عن النسبة الغالبة, فكم من شاب أحسّ بحب زميلته وخفق قلبه في مقتبل العمر, ولكن هيهات أن يصرح بذلك وهو ما يزال يأخذ مصروفه من أبيه. ومنهن من أجبرت على الزواج من رجل يكبرها بعشرات السنين, وودعت أحلام الشباب، رغم أنها حلمت بفارس على حصان أبيض, وذلك تحت ضغوط الأهل والوضع المادي, والمحاكم حافلة بتلك القصص التي تُصدّع القلوب والأرواح.
جميل أن نحلّق في عوالم الحب المقدّس، والأجمل أن نقطف ثماره. لكن لغة الواقع القاسية هي مَعلمٌ قاسٍ يُجبرنا أن نقرأَ الحياة من أوّل السّطر ونقف على كل إشارة استفهام وتعجب.
قد يقول قائل أن الحب أقوى من كل العوائق, هو الذي ينتصر في النهاية.. نعم أنا موافق على ذلك الرأي.. لكن الحب إن لم يلق تربة خصبة، ويداً ترعاه, وقلباً يسقيه ويضحي من أجله, لن ينمو ولن يزهر ولن يثمر مستقبلاً.
فالحب هو عصارة الروح وسر التعلق بالحياة. فلنتعلم كيف نحب دون أن نجرح، وأن نعيش الحياة دون أن نسبب أي حزن لمن حولنا.
كلمات قصيدة أنا وليلى
مــاتــت بــمـحـرابِ عـيـنـيكِ ابـتـهـالاتي
واسـتـسـلمت لــريـاحِ الــيـأسِ رايــاتـي
جــفّـتْ عـلـى بـابـكِ الـمـوصودِ أزمـنـتي
لـيـلـى… ومـــا أثـمـرت شـيـئاً نـداءاتـي
عـامـان مــا لافَ لــي لـحـنٌ عـلـى وتــرٍ
ولا اسـتـفـاقت عــلـى نـــورٍ سـمـاواتي
أعــتّـقُ الــحـبّ فـــي قـلـبـي وأعــصـرُهُ
فــأرشـفُ الــهـمّ فـــي مُـغـبرّ كـاسـاتي
مـــمـــزقٌ أنــــــا، لا جــــــاهٌ ولا تـــــرفٌ
يــغــريـكِ فـــــيّ فـخـلـيـنـي لآهـــاتــي
لـــو تـعـصـرينَ سـنـيـنَ الـعـمـرِ أكـمـلـها
لــسـالَ مـنـهـا نــزيـفٌ مـــن جـراحـاتـي
لـو كـنتُ ذا تـرفٍ مـا كـنتِ رافـضةً حـبي
ولـــكــنّ عـــســرَ الـــحــالِ مــأســاتـي
عــانـيـت عــانـيـت لا حــزنـاً أبـــوح بـــه
ولــسـت تــدريـن شـيـئاً عــن مـعـاناتي
أمــشـي وأضــحـكُ يـــا لـيـلـى مـكـابرةً
عـلّـي أخـبـي عــن الـنـاسِ احـتضاراتيْ
لا الــنـاسُ تـعـرفُ مــا أمــري فـتـعذرني
ولا ســبـيـلَ لــديـهـم فـــي مـواسـاتـيْ
يــرسـو بـجـفـنيّ حـرمـانٌ يـمـصّ دمــي
ويــسـتـبـيـحُ إذا شــــــاءَ ابـتـسـامـاتـي
مـعـذورةٌ أنــتِ إن أجـهـضتِ لــي أمـلـيْ
لا الـذنـبُ ذنـبـكِ.. بــل كـانـت حـماقاتي
أضـعـتُ فــي عَــرَضِ الـصـحراءِ قـافـلتيْ
وجـئـتُ أبـحـثُ فــي عـيـنيكِ عـن ذاتـيْ
وجــئــتُ أحـضـانـكِ الـخـضـراءَ مـنـتـشياً
كـالـطـفـلِ أحــمـلُ أحــلامـي الـبـريـئاتِ
غـــرســتِ كــفــك تـجـتـثـين أوردتــــيْ
وتـسـحـقـينَ بــــلا رفــــقٍ.. مـسـراتـيْ
واغــربـتـاه.. مــضـاعٌ هــاجـرتْ سـفـنـي
عــنـي ومـــا أبــحـرتْ مـنـها شـراعـاتيْ
نـفـيتُ وأسـتـوطنَ الأغــرابُ فــي بـلديْ
ودمّـــــروا كـــــل أشــيـائـي الـحـبـيـباتِ
خـانـتكِ عـيـناكِ فــي زيـفٍ وفـي كـذبٍ؟
أم غـــرّكِ الـبـهـرج الــخـدّاع.. مــولاتـي؟
فــراشـةٌ جـئـتُ ألـقـي كـحـلَ أجـنـحتي
لــديــكِ فـاحـتـرقـت ظــلـمـاً جـنـاحـاتي
أصــيــحُ والـسـيـفُ مـــزروعٌ بـخـاصـرتي
والـــغــدرُ حــطّــمَ آمــالــي الـعـريـضـاتِ
وأنــــــتِ أيـــضــاً ألا تـــبّــتْ يـــــداكِ إذا
آثــــرتِ قــتـلـيَ.. واسـتـعـذبـت أنّــاتـي
مَن لي بحذفِ اسمك الشفافِ من لغتي
إذا سـتُـمـسي بـــلا لـيـلى.. حـكـاياتي
بقلم نزار جميل أبو راس
المصادر