
جدول المحتويات:
رائعة أم كلثوم وقصة أغنية أغداً القاك، قصة اللهفة والترقب والحيرة وانتظار الغد بما يحمله من آمال وأحداث، هي حال العاشق الذي ابتلي بالحب، وأحس بحلاوته وعذابه، تملك جوانحه وسيطر على روحه، وتحكم بكل نوازعه الشعورية والوجدانية، فأسلم له مفاتيح قلبه وعقله، وفتح كل أبواب العشق الأسطوري أمامه، ودفق المشاعر السامية الذي يهدر عالياً في بحر الحب العظيم..
قصة أغنية أغداً ألقاك وأم كلثوم
الحب العظيم.. ذلك الشعور الساحر الذي يصل إلى شغاف القلوب، فيمسّها مسّاً رقيقاً مرهفاً، يجعل العاشق هائماً بالحبيب، يشغله طيفه وصوته وضحكته وأدقّ تفاصيله.
هذه حكاية أغنية أغداً ألقاك، تلخّص قصّة شابٍّ عاشقٍ حالمٍ بلقاء الحبيب، متشوق لرؤيته، مترقباً لخطواته ونبرات صوته، إنه الطالب الجامعي السّوداني “الهادي آدم” تعلّم في جامعة القاهرة، وتعلّق قلبه بفتاة أحلامه وزميلته في الجامعة، أحبّها حبّاً كبيراً، هذا الحب العفيف الطّاهر. تواعدا فيه على الزّواج بعد التّخرّج، لكنّ قدر العاشق دائماً، المعاناة والألم في فراق الحبيب..
الحلم الذي انتظره “الهادي آدم” أصبح كابوساً، فبعد أن تقدم الشاب إلى أهل الفتاة حسب الأعراف والتقاليد، وتعرف على أهلها وأبيها وزارهم في منزلها طالباً القرب ويد كريمتهم للزواج، قوبل طلبه بالرفض. حاول الشاب بكل السّبل والوسائل تقريب وجهات النّظر للحصول على موافقة الأهل وأبيها، لكنّ جميع الوسطاء والوجهاء قوبلوا بالرّدع من قبل الأب الرافض لفكرة زواج ابنته من “الهادي آدم”، مما شكّل له صدمة عاطفية وحزناً شديدين، بعدما تمّ رفض طلبه سافر إلى بلده في السودان مهزوماً، وكأن العالم يقف ضد أحلامه. أحس بمرارة الهزيمة، وجرّ أذيال الخيبة والندامة. كان يجلس إلى جانب شجرة قريبة من سكنه يسترجع ذكريات الزّمن الجميل، وما مرّ به من أحداثٍ بحلوها ومرها، وفي كل يوم يشتد عليه الحزن والحنين للقاء الحبيبة، ووسط هذه الحيرة والحزن، تأتي رسالة من الفتاة تخبره فيها بأنّ أباها قد وافق على زواجه منها، وهي تنتظره ليتمّم مراسم الزواج المعتادة، وكأنه لم يصدق ذلك الخبر الذي زفّته له الحبيبة بعد هذا الانتظار والتّرقب، أمسك بقلم وورقة بيضاء، وجلس تحت الشجرة وبدأ بكتابة الأغنية واصفاً فيها شدّة تلهّفه وترقّبه للغد وما يحمله من بشائر اللّقاء والوصال، وكم ينتظر ذلك الغد بفارغ الصّبر، إنّه جنة الاشتياق والرّوح والهيام وجنون الحبّ الذي لا يعرف حدّاً أو نهاية، نعم.. كانت كلماته الجميلة التي نسجها من خياله وحبّه وشوقه وانتظاره من أصدق وأرقّ المشاعر التي تصوّر حالة العاشق الملتاع الذي ينتظر شروق شمس غد، لأنّه شروق جديد في حياته وفكره، يجعله شخصاً محظوظاً لأن الله حقق الله حلمه. فكانت ولادة هذه الكلمات التي غنتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم.
رواية أخرى لأغنية أغداً ألقاك
وفي رواية ثانية تقول.. أن الهادي آدم حضّر أغنية لسيدة الغناء العربي أم كلثوم ليعرضها عليها، وأخذ موعداّ وسافر إلى مصر، ونزل في فندق، وأمضى ليلته فيه بعد أن وافقت أم كلثوم على لقائه والاستماع إلى ما لديه، وقبل اللقاء الموعود أصاب الهادي آدم شعور غريب بالخوف والحيرة والترقب وهو يفكر بالغد وما سيحمله له من أحداث، لم يعتد على لقاء الفنانين والشعراء والملحنين الكبار، فأخذ يصف ما يحس به في تلك الليلة التي تسبق يوم لقائه بالسيدة أم كلثوم، وفعلاً بدأ بكتابة الأغنية:
أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غدٍ
يا لشوقي واحتراقي في انتظار الموعد
آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابا
كنت أستدنيه، لكن هبته لما أهابا
وأهلت فرحة القرب به حين استجابا
هكذا أحتمل العمر نعيماً وعذابا
مهجة حرة وقلباً مسه الشوق فذابا
أغداً ألقاك
أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني
أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني
أغداً تشرق أضواؤك في ليل عيوني
آه من فرحة أحلامي ومن خوف ظنوني
كم أناديك وفي لحني حنين ودعاء
آه رجائي أنا كم عذبني طول الرجاء
أنا لو لا أنت لم أحفل بمن راح وجاء
أنا أحيا لغد آن بأحلام اللقاء
فأت أو لا تأتي، أو فافعل بقلبي ما تشاء
أغداً ألقاك
هذه الدنيا كتاب أنت فيه الفكر
هذه الدنيا ليال أنت فيها العمر
هذه الدنيا عيون أنت فيها البصر
هذه الدنيا سماء أنت فيها القمر
فارحم القلب الذي يصبو إليك
فغداً تملكه بين يديك
وغداً تأتلف الجنة أنهاراً وظلاّ
وغداً ننسى فلا نأسى على ماضٍ تولّى
وغداً نسهو فلا نعرف للغيب محلا
وغداً للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا
قد يكون الغيب حلواً.. إنما الحاضر أحلى
أغداً ألقاك
كلمات: الهادي آدم
ألحان: محمد عبد الوهاب
يبدو أن الشاعر لم يقدم كلمات الأغنية التي جلبها معه من السودان، واستبدلها بكلمات هذه الأغنية التي تصف حاله وخوفه وترقبه للقاء السيدة أم كلثوم ترى هل ستحقق كلماته النجاح المنشود.
في غمرة هذه الأحاسيس وهذه الحيرة وهذا القلق الإيجابي ولدت كلمات هذه الأغنية التي غنّتها أم كلثوم، وكانت من أجمل أغانيها التي تحمل مشاعر إنسانيّة جميلة، تعبّر عن حالة شعوريّة حريصة على عدم الفشل، ومصرّة على النجاح مهما كلّفها الأمر من تحدّيات، فكانت بحق رائعة غنائيّة من روائع كوكب الشّرق التي يجب الوقوف عندها وتأمّلها بشكل متأنٍّ، فهي تلخّص ذلك القلق الإيجابيّ الدافع للنّجاح.
وكان النّجاح حليفه.. فخُلّدت كلمات الأغنية.. وأصبحت رمزاً من رموز الإبداع الغنائي للسيّدة أم كلثوم.
بقلم نزار جميل أبوراس
المراجع