أدب وشعر

أدونيس- نظرة نقدية

أدونيس- نظرة نقدية

للشعر عند أدونيس مكانةٌ أخرى، فهو الملاذ وهو الوطن وهو الخلق، وهو الشك وهو اليقين، وهو الفيض الحداثي والتمرد على كل ما هو قديم شكلاً ومضمونا.

إنّ الشعر كما قدّمه لنا أدونيس هو التطلّع للمجهول، وهو استشراف الغد وهو الرؤيوية للمستقبل الغائب وللحاضر القائم أيضاً. لكنّ، شعر أدونيس لم يكن واحداً بل مرّ بمرحلتين

المرحلة الأولى مرحلة البدايات والوعي: التي تمثّلت في الشعر الإرشادي أي غدا شعره أقنعةً، يختبئ خلفها برموز، توحي أكثر ممّا تُخفي.

أمّا المرحلة الثانية فهي مرحلة النضج والتأسيس: التي تمثّلت في الشعر التأويلي أي تجاوز شعره مرحلة إنتاج الرموز إلى مرحلة الدخول في تأويلها.

حياة أدونيس

أدونيس هو علي أحمد سعيد إسبر، أمّا أدونيس فهو اسم أطلقه على نفسه تيمناً بالإله الفينيقي أدونيس، وقد ولد في عام 1930م في مدينة جبلة على الساحل السوري، حيث تعلّم القراءة والكتابة من والده، كما حفظ الكثير من الشعر العربي القديم، وفي الثالثة عشر من عمره ألقى أولى أشعاره أمام الرئيس السوري شكري القوتلي، ممّا دفع الرئيس إعجاباً به، لمنحه فرصة للدراسة في المدرسة العلمانية الفرنسية في طرطوس، ومن ثمّ تابع دراسته في جامعة دمشق، وتخرج من قسم الفلسفة في عام 1954م، ثمّ حصل في عام 1973م على شهادة الدكتوراه في الأدب من جامعة القديس يوسف في لبنان. إقرأ أيضاًالعولمة والتحديات الثقافية العربيّة المعاصرة

وبعد ذلك عاد إلى سوريا والتحق بالخدمة العسكرية، لكنّه سُجن نتيجةً لانتمائه للحزب السوري القومي الاجتماعي، وبعد ذلك هاجر إلى لبنان بشكل شبه نهائي، وتعاون مع الشاعر اللبناني يوسف الخال على إطلاق مجلة شعر التي تعدّ من أهم بوادر الحداثة في العالم العربي، ومن ثمّ انفرد بإصدار مجلة مواقف في أوائل السبعينيات والتي استمرت حتى 1994م.

إصدارات أدونيس الشعريّة:

  1. قصائد أولى، دار الآداب، بيروت، 1988.
  2. أوراق في الريح، دار الآداب، بيروت، 1988.
  3. أغاني مهيار الدمشقي، دار الآداب، بيروت، 1988.
  4. كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل، دار الآداب، بيروت، 1988.
  5. المسرح والمرايا، دار الآداب، بيروت، 1988.
  6. وقت بين الرماد والورد، دار الآداب، بيروت، 1980.
  7. هذا هو اسمي، دار الآداب، بيروت، 1980.
  8. منارات، دار المدى، دمشق 1976.
  9. مفرد بصيغة الجمع، دار الآداب، بيروت، 1988.
  10. كتاب القصائد الخمس، دار العودة، بيروت، 1979.
  11. كتاب الحصار، دار الآداب، بيروت، 1985.
  12. شهوة تتقدّم في خرائط المادة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988.
  13. احتفاءً بالأشياء الغامضة الواضحة، دار الآداب، بيروت، 1988.
  14. أبجدية ثانية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1994.
  15. مفردات شعر، دار المدى، دمشق 1996.
  16. الكتاب I، دار الساقي، بيروت، 1995.
  17. الكتاب II، دار الساقي، بيروت، 1998.
  18. الكتاب III، دار الساقي، بيروت، 2002.
  19. فهرس لأعمال الريح، دار النهار، بيروت.
  20. أول الجسد آخر البحر، دار الساقي، بيروت، 2003.
  21. تنبّأ أيها الأعمى، دار الساقي، بيروت، 2003.
  22. تاريخ يتمزّق في جسد امرأة، دار الساقي، بيروت، 2007.
  23. ورّاق يبيع كتب النجوم، دار الساقي، بيروت، 2008.
  24. الأعمال الشعرية الكاملة، دار المدى، دمشق، 1996.
  25. الكتاب الخطاب الحجاب 2009.
  26. ديوان البيت الواحد في الشعر العربي 2010
  27. ديوان كونشيرتو القدس 2012
  28. كتاب غبار المدن بؤس التاريخ 2015

آخر إصدارات أدونيس

أمّا آخر إصداراته فهو كتاب (سوريا وسادة واحدة للسماء والأرض) في عام 2017م، وقد تحدّث فيه عن سوريا وجمالها قبل اندلاع الحرب، فضلاً عن العديد من كتب المختارات الشعرية والترجمات والدراسات التي صدر عددٌ منها بالتعاون مع زوجته الناقدة السورية خالدة سعيد، أمّا الجوائز التي نالها، فنذكر بداية ترشحه لنيل جائزة نوبل للآداب عدّة مرات، ومن ثمّ نذكر أهم الجوائز العالمية التي حصل عليها، وهي:

  1. جائزة الشعر السوري اللبناني من منتدى الشعر الدولي في بيتسبورغ، الولايات المتحدة 1971.
  2. جائزة جان مارليو للآداب الأجنبية، فرنسا 1993.
  3. جائزة فيرونيا سيتا دي فيامو روما. إيطاليا 1994.
  4. جائزة ناظم حكمت. إسطنبول 1995.
  5. جائزة البحر المتوسط للأدب الأجنبي. باريس، فرنسا.
  6. جائزة المنتدى الثقافي اللبناني. باريس، فرنسا 1997.
  7. جائزة الإكليل الذهبي للشعر مقدونيا 1998.
  8. جائزة نونينو للشعر إيطاليا 1998.
  9. جائزة ليريسي بيا إيطاليا 2000.
  10. جائزة غوته مدينة فرانكفورت 2011

شعر أدونيس

إنّ الشعر عند أدونيس هو خلقٌ إبداعيٌ، يُظهر المختفي ويحجب الظاهر ويعرّي المعنى، ويعمق التوتر في النص، كثيراً ما تطرح قصائده أسئلةً لا أجوبةً لها، كثيراً ما يكشف شعره جوهر الإنسان، فشعره ليس إلا محاولة لطرح فلسفة تخاطب العقل في قالبٍ أدبيٍّ، فأدونيس ليس شاعراً فقط بقدر ما هو فيلسوف بقدر ما هو ناقد بقدر ما هو منظّر للشعر. من هنا كانت التجربة الشعرية عند أدونيس هي إعادة صياغة لمسلمات العموديّة الشعرية العربية، وهي في الوقت ذاته تأسيس لشعرية حداثية وما بعد حداثيّة عربيّة، إذ يقول في إحدى قصائده:

أسافر

أصعد، أتفجّر

ألبس الهدير والتهدّج

أتموّج بالرّعب

أتحرّر من التّوبة، العظة، العودة

أتحرّر من الصّبر

من دمي والتّاريخ الرّاقد فيه

أتجزّأ وأعرّي وأوسوس نفسي ضدّ نفسي

أضع نفسي خارج كلّ شيء وأقول للجنون الرشيق أن

يسرق أهدابي كنسيمٍ غربيٍ

أنقطع، أنفصل، أنفصم

أختبئ تحت شفتيّ

بعيداً بعيداً بعيداً

في الضوء، في الظلام، في الصمت، في الذّهول

في لغة تغيّر الكلام

في مطر يغيّر الفصول

في الظمأ الجّامح والسّير بلا وصول

في النص الأدونيسي السابق، نتلمس مساراً ينطلق من مفرداتٍ ممكنة، لكنّه وفي الآن ذاته يبني عوالمَ مستحيلةً، فمن الملموس المادي إلى الحقائق العميقة، ومن المفردات البسيطة إلى الأمور الغيبية، فأدونيس يبحث في الشتات الفكري، وينطلق ممّا يعانيه هو ومن ثمّ ممّا نعانيه نحن، منطلقاً من تلك الحرية التي تخلص نفسه من نفسه، فيبني فكره في الفراغ، متطلعاً لكل ما هو مجهول. إذ يقول في موضعٍ آخر:

تخرج الأشياء من أسمائها، لا أسمّيها، ولكنْ

اسألوا الشّرق: ألن يضجرَ من مزجِ خُطاهُ

بالدّم الدافق من أبنائه

ومن السّكر به

ومن النوم على أشلائهم؟

قامةُ التاريخ مالتْ في يديّ

إنّه الإنسانُ – مذبوحاً على صدر نبيٍّ

أقرأ الرّمل وأستأنس بالريح الّتي تذرو وتنأى

وأقولُ الحلمُ ضوءٌ ولقاحٌ

وعلى الحلم تأسست، وفي الحلم بنيت

أيها الواقع من سمّاك، من أين أتيت؟

لسلالاتٍ من الجُرحِ

الّذي يجهلُ

هل يضحكُ أم يبكي

دمي طفل سؤالٍ

أدونيس هنا لا يعطي الأشياء اسماً، إنما يخوض في غمار السؤال عنها، ولعلّ أكثر ما يؤرقه هو متى نخرج من عباءة الأديان؟ ومتى ننسى ظلال التاريخ التي تخيم على حاضرنا؟ فالكتابة الأدونيسية تجنح لتفكيك العالم ومن ثمّ بناءه من جديد، إذ تغدو اللغة انفعالاً بقدر ما هي تجربة وبقدر ما هي مغامرةً، إنّها لغة تحاول التخلص من كل ما علّق بها من رواسب الميتافيزيقيا، لغة تسائل الأسس المنطقية؛ لتهدمها لا لتجد أجوبةً لها. إقرأ أيضاً في النقد الأدبي عن بحجم حبة عنب للمؤلفة المصرية منى الشيمي

الرمز في شعر أدونيس

إنّ أدونيس في خطابه الشعري يقوّض بعضاً ممّا اتفقت عليه الثقافة العربية، لذلك يأتي النص الأدونيسي ثرياً بعناصر ثقافية، لا تلبث أن تسقط في ظل مفارقات صادمة، ممّا يشكّل نسقاً ثقافياً يُظهر المخاتل في ثقافتنا، فهو يتجه إلى أغرب القضايا وأكثرها غموضاً في تراثنا، فيحاول نبشها، وخيرُ مثالٍ على ذلك ديوان (تاريخ يتمزّق في جسد امرأة)، فهذا الديوان يمثل حفراً ثقافياً وممنهجاً في القناعات الثقافية الراسخة لدينا، إذ يعرّي ويقوّض الفكر العربي، فيقول:

جسدي ما بدأت وما أبدأ

جسدي كل ما كتبته يداي، وما أقرأ

والذي يفتح الطريق إلى الكلمات – حبالى بأسرارها

وإلى الليل يسبح في ماء تاريخه

جسدي لا سواه

جسدي ما أراه وما لا أراه

يُحيل النص من خلال مفارقاته إلى معاني مجازية متضاربة، تمتد هذه المدلولات إلى مناطق بعيدة عن المنطق، لكنّ شعر أدونيس اعتاد أن ينقلنا من المعاني المألوفة إلى رؤى أكثر جدّةً وابتكاراً وعمقاً، فالشعر عند أدونيس هو خرق للظواهر، وهو تجاوز للمسلمات، وهو شك بالقيم، وبعثٌ لحقيقة أخرى لا نعرفها، إذ يقول في موضعٍ آخر:

قلقي أن رأسي مليء

بفراغك أن امتلاءك لغوب ((نحن))

وكنا وكانوا ومن أين جاؤوا وجئنا

قلقي أنك اختناق بـ ((حتى))، و((أنّى))، و((ليت))

يظهر في النص التناوب بين الضمائر والأدوات، هذا التناوب يوحي بقدرة الشاعر على امتلاك زمام اللغة وجعلها أكثر مطاوعةً، كما يدفع القارئ لإعادة التفكير في معتقداته الوجودية من خلال التوغل في الأبعاد الحضاريّة، وبذا نجد أنّ النص حمل بعداً رؤيوياً، لا يمكن تلمسه بالإدراك المباشر بل يحتاج إلى التعمق في التلغيز، فيما نمثّله نحن من جهة وكذلك الآخر من جهة أخرى.

وفي موضعٍ آخر يقول:

ونناديك يا لات أنت الأنوثة، شعر

أن تكون السماء سريراً وأنثى

في هذا النص نجد أن المعنى مشوش، إذ يحاول النص هدم المرتكزات الدينية، ببعثه لجدل عقائدي فكري، يخالف الحقائق التي نعرفها، داعياً للتأمل وللبحث عن حقيقة أخرى.

فشعر أدونيس كان ولا يزال ينبض بلغةٍ غامضةٍ، وبمعانٍ لا يمكن الإمساك بها، لذلك فأدونيس يحتاج قارئاً أكثر اطلاعاً وانفتاحاً ليجاري نصّه ومعانيه.

فجملة (أن تكون السماء سريراً وأنثى) تحمل توتراً عالياً، ربما لم ندرك معناها أو لم نستطع التوصل إلى دلالتها بدقة، لكن الاستمتاع بالشعر لا يوجب أن ندرك معناه كلياً، بل لعلّ مثل هذا الإدراك يُفقد الشعر بعض لذّته وإمتاعه.

المرأة في شعر أدونيس

حاول أدونيس تحرير المرأة من كل ما لحق بها من ظلم، سواء أكان بسبب الإنسان أم بسبب المعتقدات الدينية، لقد حطم كل الأسوار التي سجنت المرأة، ومحا من أجلها كل الخطوط التي رسمت حولها، حتى تلك الخطوط التي رسمتها تعاليمنا، أيضاً أسقطها أدونيس لتبقى المرأة حرّة لا يحدها قيد ولا تأسرها مقولة، إذ يقول:

((جسدي ليس منها)) تقول تعاليمهم

أتقلب فيه

وتهت، وغنيت، وصليت، وانسقت

فيه من فضاء إلى آخر

فلماذا تقول تعاليمهم

جسدي ليس مني؟

نلاحظ صوت الغائب عندما يقول: (تقول تعاليمهم)، وكأن أدونيس يريد أن يكون محايداً، لكنّه لا يلبث أن يتقمص دور المرأة، فيتحدّث بصوتها موجهاً لائحة من الاتهامات، لتلك التعاليم تعاليمهم التي سجنت جسد المرأة وراء مقولاتها. أراد أدونيس أن ينقل جسد المرأة إلى مسارات لا تعاليم فيها، إلى عالمه هو، فيقول:

اليوم أسلمت جسمي

لهوى شهواتي وهتفت انتشاء

أين جسمي، لم ينزل اليوم نجم علي

إنّ جسد المرأة هو قناعٌ نسقيٌّ ثقافيٌّ، استظلّ وراءه أدونيس ليمرر آراؤه في كل المحظورات التي رسختها الثقافة العربية، فأدونيس ونصوصه لا تقف عند حد، ولا تمتنع عن موضوع، من الجسد إلى الفراش إلى الجنس، كل ما كنا نعتقد أنّه يخدش الحياء يتناوله أدونيس في نصوصه، فيحدث صدمةً واستغراباً لدى المتلقي، فيقول في إحدى قصائده:

مرة قال جسمي: قدمت حبي قربان تيه

إلى الله، ما ذلك الدوار

الذي قادني اليوم نحو الفراش

أدونيس لا يكتفي بتحرير الجسد من كل قيوده، بل ينتقل إلى طرح أسئلة تصدم العقليّة العربيّة، فلا يكتفي بخلخلة المقولات الجدلية الراسخة، بل يسعى لتهديمها، وليزعزع يقيننا بها، إذ يقول في موضع آخر:

والأنوثة فيها – تراها

لم تعد غير لفظ-؟؟ جسداً من كلام

وجنساً ينتقل في معجم الوحي

من آية إلى آية؟

هذه المعاني التي يبثّها أدونيس في شعره، معاني حُبلى بدلالاتٍ سائلةٍ، تنتقل بيسرٍ بين الدين والوجود والتاريخ، تنتقل لتوحي لنا أنّ المقدس هو المدنس ذاته، هذه المعاني هي دعوة لخلخلة مفاهيمنا وتصوراتنا ومعارفنا عن كل شيء، هذه المعاني لا تقدّم لنا طرحاً بديلاً، بل تكتفي في زرع  الشك في داخلنا في كل ما كنّا نظنُّ أنّه يقيني، هي تكتفي في رمي حجرة عبثية في مياه معتقداتنا.

يريد أدونيس لقارئه أن يخترق كل المنظومات، وأن يخلخل كل الأنساق الثقافية الراسخة في ذهنيتنا العربية، يريده أن يشرّع باب عقله أمام كل الأسئلة، فالسؤال فاتحة لتحرير اللغة ومن ثم الفكر ومن ثم تحريرنا نحن كشعوب وكحضارات وكثقافات.

قصيدة النثر عند أدونيس

بدأت تظهر إرهاصات قصيدة النثر في عام 1842م مع ألويزيوس برتران من خلال مجموعة حملت اسم (جاسبار الليل)، هذه المجموعة كان لها بالغ الأثر على بودلير في ديوانه (قصائد قصيرة في النثر)، كما تكرر الأثر لدى الشاعر أرتور رامبو، إذن، قصيدة النثر هي ظاهرة فرنسيّة في المقام الأول، تحددت معالمها أكثر فأكثر مع مالارميه ومع السورياليين. ومن ثمّ زاد الاهتمام بها وكثرت الدراسات عنها في منتصف الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وزاد عدد شعرائها بشكل ملحوظ في أوروبا، ففي ألمانيا ، ظهر برتولت بريخت، وفي إنكلترا، ظهر جرترود شتاين، والكثير الكثير. لكنّ قصيدة النثر ليست وليدة طفرة إبداعيّة كما هو شائع، بل لها أصول عميقة في التراث الصوفي الأدبي لأمم عريقة، منها الأمة العربية.

وإن كانت قصيدة النثر لم تظهر بشكل مكتمل منهجياً إلا في أعمال رامبو النثرية الطافحة بالشعرية كـ(موسم في الجحيم) و(الإشراقات)، أمّا في عالمنا العربي، فنستطيع القول أنّ أدونيس هو عرّاب قصيدة النثر، إذ يعدُّ أول ظهور عربي لها في مجلة شعر عام 1957م، وكان من أبرز شعرائها في ذاك الوقت: خليل حاوي، ويوسف الخال، وأنسي الحاج، وكذلك أدونيس الذي يعدّ بحقّ أشهر من كتب بها، فقد ارتبط اسمه بها.

ولم يكتفِ أدونيس في صوغ قصائده في قالبٍ نثري، بل ساهم في التنظير والتقعيد النقدي لها، إذ رأى أن قصيدة النثر تُبنى على أنماطها، وهذه الأنماط لا يمكن أن تكون ساكنة، فالنص هنا يقدّم افتراضاً جوهرياً، يهزُّ الخطاب الشعري ويستقصيه أيضاً، ويساهم في فتح أبعادٍ تجريبية، وفي ابتكار تعابير تكون على مستوى الافتراض والتساؤل.

من هنا كانت قصيدة النثر هي إعلانٌ صريحٌ وواضحٌ؛ لتبني أدونيس قيم ما بعد الحداثة، إذ تشكّل قصيدة النثر اعترافاً بمرارة التجربة الحداثيّة، فهي في داخلها، تستبطن بواعث التوتر الاجتماعيّة والثقافيّة والفكرية، تلك البواعث السائدة وكذلك المضمرة، وبذا تشكل قصيدة النثر نوعاً من الصدمة لحركة المجتمع الرتيبة، لتوجّهه نحو التحدي ونحو الممكن.

إن أدونيس من خلال قصيدة النثر يريد أن يخبرنا أن الحداثة وما بعدها ليستا مرحلتان زمنيتان فقط، كما أنهما ليستا ظواهر ترتبط بخصوصية المجتمعات الغربيّة، وبهذا فنحن كمجتمعات عربية أبعد ما نكون عن الحداثة وما بعدها. لكن ما بعد الحداثة كما يتصوّرها أدونيس حركة إبداعيّة متأصلة، تُخرج اللغة من الإملاءات، وتخرج المجتمع من الهيمنة، إنّها بمثابة تقدّم في حركية التاريخ.

لذا، بقيت قصيدة النثر تتأرجح بين اللغة والأسلوب، في مكانٍ لا يمكن تحديده، فهي أثرٌ يظهر ويمحى في الوقت ذاته، أي حضورٌ يرتسمُ من خلال الغياب، كما قال أدونيس:

ماحيّاً كل حكمة

هذه ناري

لم تبقَ آية- دمي الآية

هذا بدئي

فأدونيس لا يهتم بالتعبير عن الأشياء، بل لا يهتم بتسميتها حتّى، فهو مع كل قصيدة يخوض مغامرة الشك، ويطرح أسئلة تزعزع اليقين، وهو مع كل قصيدة يحاول أن يرتمي على حواف هذا العالم المتهافت، هذا العالم المنتهي فعلاً.

رفضت وانفصلت

لأنني أريد وصلاً آخر

قبولاً آخر مثل الهواء والماء

يبتكر الإنسان والسماء

يغيّر اللّحمة والسداة والتكوين

كأنّه يدخل من جديد

في سفر النشأة والتكوين

 نلاحظ أنّ أدونيس بدأ القصيدة بما بدأ به حياته بالرفض، ومن ثمّ انتقل إلى الهدم، حتى يأتي البدء، ففي هذه القصيدة نرى أن المعنى ينتظر، فلا الكتابة وضحّته ولا القراءة كشفته، فعليه أن يسكن ذات النص ومن ثمّ ذات الشاعر حتى يتمظهر للقارئ، فالمعنى هنا ليس أكثر من أثرٍ يخطّه طائرٌ في مسارات السماء، واللغة هنا ليست إلا نمطاً من أنماط النسيان، لغة تريد أن تلغي معرفتنا الوجودية السابقة؛ لتوحي لنا بمعرفة لا نتلمسها، لكن أدونيس يريد لنا أن نسير في طريقه، وأن ننتزع من فكرنا كل رواسب ثقافتنا التي هي في نظره ليست إلا عدماً. فأدونيس كما قال “كان يحمل عصا تضيء الطريق”. فأدونيس يقدّم لنا من خلال قصائده المتوهجة بالرؤية، يقدّم لنا عالماً يحتاج إلى الكشف، عالماً لا ندركه من خلال أبعاده الحسيّة، بل هو عالم ذو طبيعة وجودية متحوّلة.

لو رجع الزّمان من أوّل

وغمرت وجه الحياة المياه

وارتجّت الأرض وخفّ الإله

يقول لي: يا نوح أنقذ لنا

الأحياء- لم أحفل بقول الإله

ورحت في فلكي

أزيح الحصى والطين عن محاجر العينين

أفتح للطوفان أعمالهم

أهمس في عروقهم أننا

عدنا من التيه، خرجنا من الكهف

وغيّرنا سماء السنين

إن التغيير هاجسٌ لدى أدونيس، فهو يسعى  للتمرد على أقبية الفكر، ويريد أن يُسقط كل حقيقة، ففي حين يجد القارئ نفسه أمام رموزٍ عقائدية، يعرفها، يجد نفسه في الوقت ذاته أمام دلالة تختلف عما يألفه في وعيه وفكره الجمعي.

فمع كل سطرٍ شعريّ أراد أن يهدم العالم القديم، أراد أن يقوّض ثوابت الفكر الراسخة، أراد عالماً لا ينتهي، وفكراً لا تحدّه حدود، أراد عالماً يرتقي بإنسانيتنا، فنحن أكثر من كوننا بشراً، نحن ذوات خلاقة مبتكرة، وهذا ما لن نستطيع الوصول إليه دون أن نتمتع بسلطة كاملة، ولن تكون هذه السلطة في متناول يدنا إلا إذا قتلنا كل ما يهيمن علينا، وكل من يحاول أن يسلب منّا حريتنا

فأدونيس وعلى الرغم من الحضور الزاخر للموروث العقائدي في شعره، لكنّه يحضر هذا الموروث بقصد هدمه، وتفجير دلالاته، وجعله ذو دلالة عائمة لا يستطيع القارئ التوصل لها.

فالقراءة لشعر أدونيس لا يمكن أن تكون قراءة منتهية، فمع كل قراءة هناك كشف جديد، ومع أدونيس لا يوجد قراءة صحيحة ، ولا قراءة خاطئة. فمعنى شعره ينتجه كل قارئٍ تبعاً لثقافته.

الخاتمة:

أدونيس من أبرز الشعراء الحداثيين العرب، حقّق بمفرده إنجازات عظيمة، كما استطاع بقدراته المتفرّدة أن يكون عراب قصيدة النثر، وأن يكون واحداً من القلائل المجددين في الشعر العربي، فهو موسوعة ثقافيّة، تختزن تراثنا من جهة، وتطلعاتنا للحداثة من جهةٍ أخرى، لذلك يعدّ إنتاجه الشعري من أعمق التجارب الشعرية العربية المعاصرة غنىً وثراءً بمرجعيات نصيّة لا يمكن حصرها، من هنا كان قارئ أدونيس هو قارئ لا يشبه غيره، قارئاً يجب أن يتسلح بمعرفة واسعة وثقافة عميقة، حتى يستطيع أن يجاري أدونيس في احتياله الفكري، ومجازاته ودلالاته الخصبة وفكره المتفرد ولغته المتمردّة.

وكثيراً ما يعطي أدونيس أهمية للمتخيل المبتعد عن الواقع، فيطرح قضايا يصعب إدراكها بالعقل كما يصعب فهمها بالمنطق، ربما كانت هذه الرؤى التي يملكها نتيجة لتأثره بالفكر الباطني منذ صغره، فاستنزفها دائماً في قصائده، بل واحتال عليها، واستخدمها ليمرر من خلالها شيفرات وألغاز يصعب إيجاد تفسير واحدٍ لها، فمع أدونيس يتوه القارئ بين الشعر وغير الشعر، بين ما يريد أدونيس أن نصل إليه، وبين ما نريده نحن، بين ما يرمز إليه أدونيس، وبين ما نعتقد أنّه المعنى الذي يريده.

آلاء دياب

زر الذهاب إلى الأعلى